زيتون الجنوب يقطف وجع الحرب: حكاية “أبو فادي” من كفركلا

هذه حكاية واحدة من قرى جنوب لبنان الحدوديّة، حيث كان موسم قطاف الزيتون طقسًا سنويًا ثابتًا. وبات مناسبةً للوجع والإهانة والخوف…
ميرنا بشارة
أهالي جنوب لبنان، وتحديدًا قرى الشّريط الحدودي، يملكون أراضٍ صغيرة يزرعونها ويعتاشون منها. يعصرون الزّيت ويستفيدون حتى من البذور ليحوّلوها إلى “الدق” للتدفئة شتاءً.
لكنّ الحرب الأخيرة التي زُجّ فيها الجنوب تحت شعار “إسناد غزة”، قلبت هذه الطقوس رأسًا على عقب. فقد الآلاف منازلهم وتهجّروا، وصارت العودة إلى قراهم شبه مستحيلة مع استمرار وجود القواعد الإسرائيليّة والاستهدافات اليوميّة.
موسم بترتيبات أمنيّة
هذا الموسم، وبناءً على اتفاق بين الجيش اللبناني واليونيفيل واللّجان المختصّة، سُمح للمزارعين بالدخول إلى أراضيهم في أوقات محدّدة ووفق شروط أمنيّة صارمة، ليتمكّنوا من حصاد ما تبقّى من مواسمهم.
لكن العودة هذه المرّة لم تكن عاديّة، كانت محمّلة بما هو أكثر من “شوالات” الزّيتون.
تصريح للعودة إلى الرّزق
بين هؤلاء المزارعين كان أبو فادي (اسم افتراضي)، رجل ستّيني من بلدة كفركلا في جنوب لبنان.
كان يملك بيتًا بسيطًا على أطراف البلدة، وأرضًا صغيرة فيها عشرون “كعب” زيتون. مع بداية حرب “الإسناد” خسر بيته وتهجّر للمرّة الأولى، ثم تنقّل بين أماكن النزوح أكثر من مرة من دون أن يطأ أرضه منذ ذلك اليوم.
عودة أبو فادي كانت أشبه بكسرة خاطر ممزوجة بنبضة فرح خافتة. بعد كل هذا العمر، صار بحاجة إلى تصريحٍ ليعود إلى رزقه.
ليلة الموعد لم يغمض له جفن. كان مثل مراهقٍ ذاهب إلى أوّل موعد غرامي: خائف، متحمّس، مرتبك. جهّز ثياب العمل والمشمّع وعدّة الشّاي وأكياس “الجنفيص” وكل ما يلزم ليومٍ طويلٍ تحت أشعة الشمس.
القلب هو البوصلة
في الصباح، سبق الشّمس إلى نقطة التّجمّع، وانطلق موكب الفلّاحين والعمّال متجاوزين الإجراءات الأمنيّة. كلما اقتربت المسافة، مسح جبينه، عيناه تدمعان حينًا وتبتسمان حينًا آخر.
حين وصلوا إلى البلدة، تفرّق الناس كلٌّ إلى أرضه. سار أبو فادي نحو أرضه مستعينًا ببوصلة قلبه، فالطّرقات تغيّرت ومعالم المكان تلاشت، لكنّ خطواته وحدها تعرف الدّرب.
عندما وصل، ثقلت خطواته. كأن شيئًا داخله انكسر بعد كل الحماس. تسع عشرة شجرة محترقة متفحّمة، وبقيت شجرة واحدة غصونها مكسّرة.
اقترب منها، أسنَدَ ظهره إليها وبكى. مدّ يده، قطف كمشة زيتون من الشّجرة الوحيدة المتبقّية، فركها بأصابعه وشمّها، ثم جمع أغراضه وعاد كما جاء، مكسورًا مثلها.
وجع جماعي بصوت خافت
أبو فادي ليس حالةً فرديّةً، بل وجه من وجوه الخسارة الجماعيّة الّتي يدفعها الجنوبيون منذ بداية حرب لم يُستشاروا فيها ولم يختاروها.
بينما تُرسم الخرائط وتُتخذ القرارات من فوق، يبقى المزارعون وأصحاب البيوت آخر من يُسأل وأوّل من يحترق.
غزة خرجت من الحرب، أما هم فما زالوا عالقين في تصاريح المرور، والدّروب المهدّمة، وحقول الزّيتون المتفحّمة.
من أرض كانت عنوان رزقهم وكرامتهم إلى تصريح على الحاجز، وكسرة خاطرٍ على عتبة شجرةٍ محترقةٍ.
تختصر حكاية أبو فادي من كفركلا، مأساة المزارعين في الجنوب اللّبناني الذين حُرموا من أراضيهم ومواسمهم بسبب الحرب الإسرائيليّة المستمرّة، وباتوا يحتاجون إلى تصاريح للعودة إلى رزقهم.




