من رحيل إلى رحيل: هل ننجو من نزوح جديد؟

“ما عدتُ أخسر غير الغبار، وما مات مني”. كأن محمود درويش كتب قصيدته اليوم، وكأن الإعادة والتكرار قدر هذه البلاد.
ملاك فقيه
يعيش الجنوبي في زمن لم تعد الخسارة تفاجئه. بعدما أصبحت جزءاً من ذاكرته. حتى باتت كأنها طقس موسمي لا مفر منه. فإعادة إعمار ما تهدم بعد الحرب لا تطفئ قلقه من مستقبل غامض. ولا توقف ضجيج ذلك السؤال في رأسه: هل سيبقى غداً في منزله؟
إنه عبء يحمله منذ سنوات. حِسابٌ مفتوح مع احتمال نزوح جديد.
“أصلا ما خلصت الحرب” و”شو؟ منضب الشنطة؟”، سؤالان يترددان بكثرة على ألسنة الجنوبيين في لبنان منذ وقف إطلاق النار وحتى اليوم. رغم محاولاتهم المستمرة لاستعادة حياتهم الطبيعية، من خلال ترميم المنازل وإصلاحها، وإعادة فتح المؤسسات التجارية.
مصارعة التعافي.. واستعداد للنزوح
هكذا هو حال من عايشوا تبعات حرب الإسناد قبل نحو عام من اليوم. ولا يزالون يصارعون للتعافي المشروط بلا شك بعدم السقوط “في الحفرة ذاتها” للمرة ..!!
وبالمقارنة مع تجارب سابقة مماثلة نظرياً، يبدو الواقع هذه المرة مختلفاً عما كان عليه مثلاً بعد حرب تموز 2006. حين لم يطُل الزمن قبل أن تظهر بوادر عودة الحياة إلى الجنوب بفضل الاحتضان العربي والدولي الواسع آنذاك. وتدفق التعويضات من دول كالسعودية وقطر والكويت والإمارات. إلى جانب المناخ الدولي الأكثر مرونة مع “حزب الله”، وهو ما انعكس أيضاً تغييراتٍ واضحة لصالحه على الساحة الداخلية بالمقابل.
اقتراب الحرب الإسرائيلية
أما اليوم، فتسود أجواء مشحونة لبنانياً، بفعل تسريبات وتقارير وتصريحات تتحدث عن اقتراب حرب إسرائيلية جديدة في أعقاب التداعيات الإقليمية الواسعة منذ 7 أكتوبر عام 2023 أو ما سُمّي بـ “طوفان الأقصى”.
هذه المرة يتخوّف الجنوبيون بشكل خاص من أن تكون الحرب أشد قسوة من سابقتها. ويتساءلون إذا كانت لديهم فرصة للتحكم في مصيرهم وتفادي الأسوأ هذه المرة.
لكن ماذا تعني كلمة “أسوأ” في هذا السياق؟
هنا تأتي طبعاً بالقياس مع واقعهم عقب “الطوفان” وما سمّي بـ “حرب الإسناد” لبنانياً. فبنظرة سريعة نجدُ مثلاً أنّ الشريحة الأكثر تضرراً كانوا أهالي القرى الحدودية كعيترون، والعديسة، ومارون الراس، والخيام، وكفركلا، وعيتا الشعب. هؤلاء أسسواً مؤخراً رابطة في النبطية لمناقشة تحدياتهم وإيصال معاناتهم إلى المسؤولين. لكنهم أقل قدرة على تحمل الأعباء الجسدية والنفسية والمادية لنزوح جديد. فمن الناحية المالية تراجعت مصادر الدعم التي تلقوها سابقاً من حزب الله من بدلات إيجار وتغطية معيشية وصحية، مقارنة بفترة التهجير الأولى والثانية: أي فترة الإسناد، وفترة حرب الستة وستين يوماً. ليكون شبح نزوحهم المحتمل اليوم هو التهجير الثالث!.
أما الأكثر هشاشة، فهم من نزحوا سابقا من القرى الحدودية إلى قرى شمالي الليطاني، فانتقلوا من حالة لا أمان إلى حالة لا أمان جديدة، لا تختلف كثيراً عن الأولى.
مآسي متنوّعة…
وبين من اعتادوا التهجير، تتنوع المآسي والتحديات. فهناك مَن خسر كل مدخراته في النزوح الماضي، أو من فقدَ جزءاً منها. وهناك من أعاد بناء مؤسسته التجارية. لكنهم جميعهم ليسوا بوارِدِ تحمَل تكلفة نزوح جديد بالظروف نفسها، دون أن نتطرق أساساً للخسائر الأخرى. وبالتوازي، تتصاعد التساؤلات حول قدرة “حزب الله” اليوم على دعم بيئته مجدداً، خصوصاً وأن قسماً كبيراً من هذه البيئة تحمّل في الحرب الأخيرة أصلاُ ضعفَ الخدمات في المدارس والطرقات والبنى التحتية، حتى في ذروة قوة الحزب. ويضاف إلى ذلك الغياب التام لدور مؤسسات كان يُعوَّل عليها، كالمجلس الشيعي الأعلى، الذي ترك متابعة قضايا النازحين، وانشغل بنزاعات سياسية، وانغمس في مناكفات داخلية لا تسمن ولا تغني من جوع.
وبينما يبدو المشهد ملبّداً بالسواد في عيون مواطنين جنوبيين، يبرُز في المقابل عالمٌ منفصلٌ عن الواقع المُعاش لدى أصحاب الخطاب الحماسي والشعارات الكبرى على وسائل التواصل الاجتماعي. “فليحدث ما يحدث”، “ماضون قدماً حتى النهاية”، “سنخوضها معركة كربلائية”. ترى وتسمع ما يقولون حتى يُخيُّلُ لك بأنك أمام جيش مرابط على الجبهات، ولستَ أمام ظواهر صوتيّة تمتطي أحصنة من خشَب، وتتاجر بلحم ومصائر الغير، بحجة امتلاكها “الحق” والحقيقة”!
ففي حين يبحث هؤلاء المرابطون افتراضياً عن بطولات رمزية، فإن المواطنين المثقلين بالهموم يبحثون عن طمأنينة وأمان واستمرار سُبُل الحياة.
“هيدا القزاز منصلحو، منجيب غيرو، بس نحنا بدنا نرتاح، نحنا منكوبين.” يلخًص صاحب مطعم القريب من محلة علي الطاهر بالنبطية سبقَ له وأصلح ممتلكاته للمرة السادسة بسبب الغارات الإسرائيلية بعبارته هذه حُلم معظم الجنوبيين: حياة آمنة، واستقرار دائم، ومستقبل واضح المعالم.
فهل سيتحقق ما يأملونه، أم أن واقعهم سيبقى رهناً بحسابات الآخرين، ليخرجوا من رحيل ويدخلوا في رحيل أشد وطأة؟




