الحنين لزيتون الجنوب: من زراعة الحبّ إلى مرارة القنينة

علي بركات – من صفحته على “فيسبوك”
البدايات في برعشيت
في عام 2011، قصدت بلدة برعشيت الجنوبية، حيث اشتريت خمسين شجرة زيتون. استأجرت سيارة “بيك أب” لنقلها إلى الضيعة، وكنت أنوي أن أزرعها بيدي. لكن لكثرتها وضيق الوقت استعنت بعمّال اثنين لحفر الجور، فيما تولّيت أنا وضع الشجر في الأرض، بكل حبّ وتأني. ومع غروب الشمس، كانت أشجاري قد استقرّت في تربتها الجديدة.
الحديد سند الزيتون
في اليوم التالي، اشتريت قضبان حديد رفيعة، وضعت بجانب كل شجرة لتقف مستقيمة في وجه الرياح. بعد فترة قصيرة، جلبت خمسة وعشرين شوالاً من “زبل الماعز”، نقلتها على ظهري إلى الأرض ووزعتها على الأشجار. وفي السنة التالية، مددت نباريش من عند الجيران وسقيتها حتى ارتوت. ثم عدت في السنة الثالثة لأكرّر ما فعلته، أضيف السماد وأرعى الأشجار كأنها بناتي.
أولى الثمار: فرحة لا توصف
بعد سنوات قليلة، كبرت الشتلات وصارت صبايا. نزعت بعض قضبان الحديد، فيما بقي بعضها مغروسًا في الأرض. وعندما حان موسم القطاف الأول، جادت الأشجار بثلاث تنكات زيت. كان شعورًا لا يوصف: فرح نابع من الأرض، من التربة، ومن دورة الحياة نفسها. لم يكن الأمر متعلقًا بالمال، بل بإحساس عميق بالجذور والخلق، وبمعجزة الزيت التي “يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار”.
موسم الوفرة قبل الحرب
في آخر موسم قبل الحرب، استأجرت اثنين من أبناء الضيعة، وانضمّت إليّ أختي وزوجتي. كانوا يقطفون، وأنا أحمل الأكياس إلى جانب الطريق. نقلت خمسين شوالًا إلى المعصرة بثلاث نقلات. هناك، سال الزيت حتى امتلأت ثمانية تنكات. كانت لحظات تختصر الحياة كلّها، من الولادة حتى الموت. كنت أراقب عملية العصر مأخوذًا بسحرها، كأنها طقس مقدّس يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والأرض والخالق.
الفارق بين التعب والسعادة
لم أشعر يومًا بالتعب، رغم المشقة. فالعمل الذي نحبّه لا يتعبنا، بل يمنحنا طاقة وسعادة. التعب الحقيقي يسكن الروح، لا الجسد، حين نُجبر على ما لا نحبّ.
مرارة الزجاجة المشتراة
اليوم، وبعد سنوات، شعرت بالتعب للمرة الأولى. ليس من حمل شوال، ولا من نقل شجرة. بل من شراء قنينة زيت زيتون من السوق. كانت خفيفة بالحجم، ثقيلة بالمعنى. لم أعرف من أين جُنيت ثمارها، ولا أي ماء شربت أشجارها، ولا أي يد قطفتها. كانت زجاجة بلا روح، حملتها كأنها حجر على صدري. عندها فقط عرفت أنّي لم أتعب يومًا كما تعبت وأنا أشتري ما كان يومًا ثمرة عرقي وحبي.




