من نكسة حزيران 1967 إلى نكسة 2023: عندما تتكرر الاخطاء وتسقط الشعارات

في الخامس من حزيران عام 1967، وقعت واحدة من أكثر الهزائم المدوية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حين شنت إسرائيل هجومًا مباغتًا على كل من مصر وسوريا والأردن، انتهى باحتلالها شبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. أطلق العرب على تلك الهزيمة اسم “النكسة”، تعبيرًا عن الوقع النفسي والمعنوي الثقيل الذي خلفته في وجدان الشعوب العربية.
ومنذ 43 عاما، وفي مثل هذا اليوم، في السادس من حزيران عام 1982، اجتاحت القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية، وتوغلت حتى وصلت إلى العاصمة بيروت، في عملية عسكرية أطلقت عليها اسم “سلامة الجليل”. وبررت إسرائيل هذا الاجتياح بمحاولة القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتخذ من جنوب لبنان مقرًا لها، بعد إخراجها من الأردن في أحداث أيلول الأسود عام 1970.
ورغم تباعد الحدثين زمنيًا وتنوع السياقات السياسية والعسكرية المحيطة بهما، إلا أن ثمة قاسمًا مشتركًا يجمع بين النكسة واجتياح لبنان، لا يتمثل في التقارب الزمني وحسب، وإنما في الغفلة عن قوة العدو، وسوء التقدير العربي والفلسطيني للواقع، وهو ما أدى في المرتين إلى نتائج كارثية، بفعل التفكيرالعاطفي وسوء التخطيط والتقدير الخاطىء الذي يستخف بالعدو وقوته.
نكسة 1967: الحماسة دون استعداد
قبل حرب 1967، ساد مناخ من الحماسة والتفاؤل في الشارع العربي. كانت الإذاعات تردد الشعارات القومية، وتُبَثّ الخطب الحماسية للرئيس المصري جمال عبد الناصر التي تتوعد إسرائيل بالهزيمة. غير أن هذه الحماسة لم تكن مدعومة بخطط عسكرية واقعية أو تقدير دقيق لقدرات العدو.
أخطأ القادة العرب في قراءة نوايا إسرائيل، التي كانت قد أعدت للضربة الجوية الأولى التي حسمت المعركة في ساعاتها الأولى، حيث دمرت سلاح الجو المصري وهو لا يزال على الأرض. فشل التنسيق بين الجبهات، وافتقدت القيادات للجاهزية والتخطيط المحكم، فيما كانت إسرائيل تتحرك وفق استراتيجية مدروسة ومبنية على استخبارات دقيقة.
اجتياح 1982: التورط في الساحة اللبنانية
في لبنان، تكررت المأساة ولكن من زاوية مختلفة. فبعد أن أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية فاعلًا رئيسيًا في الساحة اللبنانية، اتخذت من الجنوب اللبناني قاعدة للعمليات ضد إسرائيل. ومع تزايد الضربات المتبادلة، وتورط الفلسطينيين في تعقيدات المشهد اللبناني الطائفي والسياسي، بدأت إسرائيل تتحين الفرصة للتدخل.
رغم التحذيرات الدولية، ورغم أن المؤشرات كانت تشير إلى نية إسرائيل توسيع تدخلها في لبنان، إلا أن التقديرات الفلسطينية والعربية لم ترتقِ إلى مستوى الحدث. اعتقدت منظمة التحرير أن إسرائيل لن تتجرأ على اجتياح واسع، وأن المقاومة اللبنانية والفلسطينية ستتمكن من صد أي عدوان. ولكن في السادس من حزيران 1982، أثبتت الأحداث أن إسرائيل كانت قد أعدت خطة كبيرة، مدعومة بتنسيق سياسي مع الولايات المتحدة، وتواطؤ ضمني من بعض الأطراف الدولية.
حرب 2023: إسقاط شعار “تحرير القدس”
ولم تكن حرب اسناد غزة التي اعلنها حزب الله ضد اسرائيل، بالتوازي مع هجوم طوفان الأقصى الحمساوي في اكتوبر 2023، وفتح فيها حزب الله جبهة الجنوب اللبناني لقصف العمق الاسرائيلي، إلا حلقة ثالثة في مسلسل سوء التقدير المزمن. فقد اعلن الحزب منذ الساعات الأولى أنه جزء من “حرب إسناد” تهدف إلى دعم المقاومة الفلسطينية، غير أن حجم التدخل كان أكبر بكثير من مجرد إسناد، وسرعان ما تحولت المواجهات إلى حرب استنزاف مفتوحة على طول الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.
مرة أخرى، وقع الخطأ في تقدير الرد الإسرائيلي. فقد جاء الرد الإسرائيلي قاسيًا ومدمرًا، استهدف البنية التحتية في جنوب لبنان، وأدى إلى نزوح عشرات الآلاف من اللبنانيين، وسقوط مئات الضحايا بين قتيل وجريح، فضلاً عن خسائر اقتصادية فادحة.
لكن الأخطر من ذلك كله، كان في الخسائر النوعية التي لحقت بالحزب نفسه. فقد فقد الحزب عددًا من أبرز قادته الميدانيين والسياسيين، ابرزهم السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله، وهو ما شكّل ضربة رمزية ومعنوية هائلة لمعنويات أنصاره وللبيئة الحاضنة.
ولم تتوقف الخسائر عند حدود الأفراد، بل استهدفت إسرائيل بشكل ممنهج منظومة السلاح الاستراتيجي للحزب، بما في ذلك منظومات الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة ومستودعات الأسلحة النوعية، ما أدى إلى تدمير جزء كبير من القوة الردعية التي كان الحزب يعتمد عليها كورقة توازن في مواجهة إسرائيل.
وفي ظل هذه الوقائع، تراجع الخطاب من “تحرير القدس” و”كسر الحصار عن غزة”، إلى مطالبات بوقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة. وهو تراجع كشف عن فجوة بين الشعارات المرفوعة على المنابر وبين الواقع العسكري والسياسي على الأرض.
التقدير الخاطئ للواقع
الحدثان، بل الأحداث الثلاثة، تكشف عن أزمة عميقة في آلية اتخاذ القرار العربي، تتمثل في الاعتماد على الشعارات العاطفية بدلًا من الوقائع، وعلى التمنيات بدلًا من المعلومات الدقيقة والتحليل الواقعي. لم تكن الهزيمة في أي من هذه الحالات حتمية من حيث المبدأ، ولكنها أصبحت كذلك نتيجة تراكم الأخطاء والتقديرات غير المدروسة.
في عام 1967، اعتقدت القيادات العربية أن الحشود العسكرية كافية لردع إسرائيل، دون حساب لموازين القوى والتفوق الجوي والتكنولوجي الإسرائيلي. وفي عام 1982، ظن الفلسطينيون وحلفاؤهم أن الوجود الشعبي والتعاطف الدولي سيمنع إسرائيل من اجتياح العاصمة بيروت. وفي 2023، رُفعت سقوف الأهداف السياسية من دون تقدير كافٍ للتكلفة المحتملة على المدنيين والبنى التحتية، وعلى صورة المقاومة نفسها.
ليس الهدف من استعادة ذكريات الخامس والسادس من حزيران، ولا من مراجعة تجربة حرب طوفان الاقصى والاسناد عام 2023، الغرق في جلد الذات، وإنما استخلاص العبر التي قد تمنع تكرار الأخطاء. فالتفكير العاطفي والغفلة عن قوة العدو لا تُغتفر في عالم السياسة وفي الحروب، وسوء التقدير قد يكون أخطر من ضعف الإمكانيات.